Friday, January 23, 2015

الغوص في اعماق الذاكرة



ليتهُ كانَ لي . وأنا القابعُ هنا وسطَ هذا العالمِ المتمادي في جنونهِ والقائمِ على رُكام الماضيْ أن يعودَ بيَ الزمنُ الى إِحدى تِلكَ ألياليْ الصيفيةِ الساحرةِ الماثلةِ في ذاكرتي كلُجينٍ متقدٍ تحتَ شمس الأَصيلِ شاهدةً علىَ إِتصالِ روحي الآنية بتلكَ اللحظاتَ العابرةْ،التي شكلت ماهيتي وهواجسي وآمالي ، كنت فيها طفلاً هشَ الادراك ،غض الفكر ،واسعُ الخيالِ  تطوفُ حولهُ العديدُ منَ الصورِ المشوشه الملتبسة والمبهمة .
ليته كان لي وانا الحائرُ بينَ مُحدَثاتِ الأيام ِومُقتَضَياتِ الواقع وشغف الروح  المترواح بين سطوع موسمي أخاذ  وخفوت قسري قاتل ان اعودَ الى  تلكَ الليةِ التي إنقطعَ فيها التيارُ الكَهرَبائيُ عن بيتِ جدتي في تلكَ القريةِ الرابضة على سفح  تلال  متلاصقة  ينتصبُ بيتها أوسطها  على شفا واديٍ فسيحٍ تحدهُ منحدراتٌ وتلالٌ خضراءٌ مُتتابعةْ منَ السنديانِ والبلوطِ  والزيتونْ فأوقدت جدتي فانوسْ الجازولين العتيقْ والذي لم تحملها رفاهية الكهرباء على التخلصِ منه ْ ، فالنعم لا لاتدوم  كما تردد دائماً أمامنا وأن لكل شيئ وقت حاجته  مهما كان بدائياً وبلا جدوى منظوره ،  وخرجنا نجلسُ على بساطٍ  من صنعها في فناء البيت الخارجي بجانب بئر روماني قديم مكور في باطن الصخر ذو فوهة حديدية مربعة تفتح لنشل الماء بدلو مربوط بحبل . كانت رائحة الصيف بعد يوم حار رائجة لا تخطئ الانف  مشفوعة بعبق  الجوري الذي يفوح  من الحوض المجاور  والنسيم القادم من المتوسط  والحرارة الطفيفة المرتدة من ما حملته الارض من يومها . 
صدقوني لازال المشهد  بكل فيه يسكن ذاكراتي عن ما سواه من احداث وصور  يوقد في داخلي من وقت لآخر  الاسى  ، وكماً لا متناهيٍاً  من التَوقِ والحَنينِ  الى ما لايُمكنُ أن يعودَ بأي شكلٍ من الاشكالْ ، فَما كانَ يَحلو ليَ ان اضع رأسي إِلى في حجر جَدتي  تماماً كما تفعلُ شقيقتي  ونحن نَنظرُ  بعينِ الدَهشةِ  والفُضولِ  والخَيالِ  الى النجومِ المتناثرة ِعلى القبةِ السَماويةِ المرئيةِ  في ليلةٍ صيفيةٍ آسرهٍ في اجمل ما يكون وجدتي  منغمسة  بإخبارنا أسماء ماهو معروف من تلكَ  الابراجِ السماويةِ وما ارتبط بها من اساطير وحكاياتٍ شعبيةٍ ، تلكَ بناتُ نعشٍ  وذاك كُرسيُ الملكِ  وهذا الدبُ القطبيُ
الذي خِلتُهُ دُباً حقيقياً يقبعُ فوقَ الغيوم وفي الليل يتحولُ الى نجوم  تُرصعُ حيزاً من السماء يستمتعُ بمراقبتنا  ونحنُ نبصرهُ  بكل شغف وانبهار  ، وكانت جدتي لا تنكف تروي لنا قصصاً عديده من الموروث الشعبي واحياناً مواقف مما رأت وسمعت ، وكنا لا نمل نطلبُ قِصصاً بِعينها  كقصةِ  القط الذي قطع اللبانُ ذَيلهُ ، وقصة الغولة  التي خشيت ان تخرج لي في اي لحظة من ذاك البئر القديم المحاط بالحكايا والاسرارفي ذهنيتي ، كنت متشبثاً  بجدتي الرؤوم  وكلي ثقة ان لا غولة في هذا العالم تجروء على مهاجمتي ما دمتُ قريباً من جدتي .  ننام  كالملائكة  بلا أرق او تقلب  ونستيقظ  مع خيوط الشمس الاولى لنلهو ونلعب  بين البيوت الحجرية القديمة ،  كان الجميع يحتفون بي انا القادم من تلك المدينة البعيدة والذي سيقضي عندهم بعض الوقت  هو اجمل وقت  يستفتح بالفرح والشغف  الطفولي الخالص وينتهي  بالدموع حين  يحين موعد  المغادرة ،  وكيفَ أن انسى ذاك  السُلم  الخشَبي الكَبيرْ  بالنسبةِ لحجمي ذاك الوقت والذي  كان يوضعُ  على برميل حديدي ممدد على جانبه ومثبت باحجار من حوله ليصبح لُعبة (أرجوحة سيسو ) ليس  كمثله عندي أضخمُ مدينةَ ملاهيٍ في هذا العالمْ .فأينما وليتُ وجهي ثمة مايَسترعي شغفيَ وانفعالاتي وسروري علاوة على ما يغمرني من عطف جدتي  وحنانها الذي لولاه  لبقيت هذه المسميات  من عطف وحنان مجاهيل ومبهمات لا املك لها معناً او ادراكاً .
في الصباحِ تُرسُلني  جدتي  لجلب بعض الخبز من فُرنِ تنور قديم  ذو عقدة حجرية مقوسة  قائمة على عامودين حجريين  كنت اعتقد انه يعودُ لالف سنة او لربما مذ أن كان الانسان ، وكان الذهاب الى ذاك الفرن عبئٌ لا يوازيه عبئٌ على نفسي ، ذاك أن رجلاً سبعينياً  حاد النظرات كحيل العينين كثيف الشوارب  مقطب الجبين يجلس  على يمين  الفرن  بجانب مذياع ضخم  مربوط باسلاك متصلة بغطاء قَدرٍ  مُعلقٍ على عامود خشبي  يعتلي  نافذة الفرن  الخلفية ،  انها الشخصية التي  كانت تُرعبُني وتخيفُني  بحضورها  وعصبيتها  الظاهرة والطاغية على جميع زبائن الفرن ، كان يعبث بقرص  المذياع  يميناً ويساراً يروم التقاط  تردد "هنا لندن"  والجميع يسخرون منه  " اسمها بي بي سي يا ابو طه " ما انكفت  الناس تخبره !  لكن  ابو طه لايبالي بهم  وهو يبحث عن مبتغاه ومرامه فلا صوت يعلو فوق صوت  قرع طبول  الحرب في الخليج التي كانت تلوح في الافق  ويتحدث عنها الناس في مجالسهم وانا كنت الحائر الوحيد بين تلك المصطلحات والاسماء والاحداث  التي كانت جُزء من عالم لم اكتشفهُ بعدُ ولم ادرك  ابعاده  وحقيقته .
توفي ابو طه  واختلطت علي ملامح  وجهه التي غابت عن ذهني  الا باستحضار موسمي واستبدل كل ذاك الخوف والرعب تجاهه  اجلالاً وتقديراً وأسى مني على ما كان مني تجاهه من نفور وصدود حيث أني أُخبرتُ لاحقاً ان هذا الرجل كان يحملني فرحاً بي وانا بعدًُ طفل رضيع لم أدرك وجودي  ، وازيل ذاك الفرنُ القديم  لتقبع في مكانه مخازنُ تِجاريةٌ حديثةٌ بلا روح ، ورحلت جدتي من بيتها القديم  الذي هدم وشيد آخر حديث في مكانه واصبح من الصعب التعرف على معالم  ذاك المكان الفسيح  والاستدلال على موقعه  فكل شيء تغير وتبدل  ولم يعدِ النظرُ الى النجوم يعني لي شيئاً أو يثير لدي اي مُخَيَلَةٍ وفقدتُ تلقائية التفاعلً مع قِصَةِ  الغولة  التي اكتسبت كوميديةً طغت على وحشيتها القديمه وقد صادفت فيما بعد في حياتي من الاشخاص  من كانت الغولة الى جانبهم ملاكاً طاهراً ، اندثرت مدفاءة الحطب بمفهومها وهيئتها القديمة  وتلاشى من الحضور فانوس الجازولين بعد أن اخذت  الرفاهية  والسلم والتطور التقني  المتسارع الناس عن التفكير بعقلية الحيطة والتدبير واصبحنا نرى ذاك المذياع الضخم في المتاحف  وحتى ذاك التلفاز الصغير  الابيض والاسود ذو  القنالين  والذي كنت اعتقد انه احدث تقنيات عصري في ذاك الزمن ، تبدلت النفوس واختفى العطف والود والخيال والشوق والتحمس للتقدم بالعمر لسبر اغوار الابهام ولتحقيق مزيد من المعرفه ولعب مزيد من الادوار ، كل شيء مما كان اختفى  فجاءة او رويداً  وما بقي  حقاً هو حنيني الجارف الى تلك  الطفولة الساحرة  وما كان فيها من حراك واندفاعات  والى ذاك البئر الذي كنت  افتح فوهته الحديدية خُلسةً عن ناظري جدتي  لأُغني عبره ما احفظ  من اناشيدٍ  فيمنحني صوتاً وصدى اجمل بالف مره مما يستخدمونه من محسنات  صوتية في هذا الزمن  المر .